kamanabroo
24th June 2011, 10:08 PM
متن عربی:
من کتاب له عليه السلام
کتبه للأشتر النخعي رحمه الله،
لما ولاه علي مصر وأعمالها حين اضطرب أمرمحمد بن أبي بکر رحمه الله، وهو أطول عهد کتبه وأجمعه للمحاسن
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أمر به عبد الله علي أميرالمؤمنين، مالک بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوي الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في کتابه: من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقي إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه، فإنه، جل اسمه، قد تکفل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه. وأمره أن يکسر نفسه من الشهوات، ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم الله. ثم اعلم يا مالک، أني قد وجهتک إلي بلاد قد جرت عليها دول قبلک، من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورک في مثل ما کنت تنظر فيه من أم ور الولاة قبلک، ويقولون فيک ما کنت تقول فيهم، إنما يستدل علي الصالحين بما يجري الله لهم علي ألسن عباده. فليکن أحب الذخائر إليک ذخيرة العمل الصالح، فاملک هواک، وشح بنفسک عما لا يحل لک، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحببت وکرهت. وأشعر قلبک الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تکونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أکلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لک في الدين، وإما نظير لک في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل،يؤتي علي أيديهم في العمد والخطاء، فأعطهم من عفوک وصفحک مثل الذي تحب أن يعطيک الله من عفوه وصفحه، فإنک فوقهم، و والي الأمر عليک فوقک، والله فوق من ولاک! وقد استکفاک أمرهم، وابت لاک بهم. ولا تنصبن نفسک لحرب الله، فإنه لايد لک بنقمته، ولا غني بک عن عفوه ورحمته. ولا تندمن علي عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلي بادرة وجدت منها مندوحةً، ولا تقولن: إني مؤمر آمر فأطاع، فإن ذلک إدغال في القلب، ومنهکة للدين، وتقرب من الغير. وإذا أحدث لک ما أنت فيه من سلطانک أبهةً أو مخيلةً، فانظر إلي عظم ملک الله فوقک، وقدرته منک علي ما لا تقدر عليه من نفسک، فإن ذلک يطامن إليک من طماحک، ويکف عنک من غربک، يفيء إليک بما عزب عنک من عقلک! إياک ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل کل جبار، ويهين کل مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسک، ومن خاصة أهلک، ومن لک فيه هوي من رعيتک، فإنک إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله کان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حج ته، وکان لله حرباً حتي ينزع ويتوب. وليس شيء أدعي إلي تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة علي ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد. وليکن أحب الأمور إليک أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضي الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضي الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضي العامة. وليس أحد من الرعية، أثقل علي الوالي مؤونةً في الرخاء، وأقل معونةً له في البلاء، وأکره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شکراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة. وإنما عمود الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فليکن صغوک لهم، وميلک معهم. وليکن أبعد رعيتک منک، وأشنأهم عندک، أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوباً، الوالي أحق من سترها، فلا تکشفن عما غاب عنک منها، فإنما عليک تطهير ما ظهر لک، والله يحکم علي ما غاب عنک، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منک ما تحب ستره من رعيتک. أطلق عن الناس عقدة کل حقد، واقطع عنک سبب کل وتر، وتغاب عن کل ما لا يضح لک، ولا تعجلن إلي تصديق ساع، فإن الساعي غاش، وإن تشبه بالناصحين. ولا تدخلن في مشورتک بخيلاً يعدل بک عن الفضل، ويعدک الفقر، ولا جباناً يضعفک عن الأمور، ولا حريصاً يزين لک الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتي يجمعها سوء الظن بالله. شر وزرائک من کان للأشرار قبلک وزيراً، ومن شرکهم في الآثام، فلا يکونن لک بطانةً، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم و آثامهم، ممن لم يعاون ظالماً علي ظلمه، ولا آثماً علي إثمه: أولئک أخف عليک مؤونةً، وأحسن لک معونةً، وأحني عليک عطفاً، وأقل لغيرک إلفاً، فاتخذ أولئک خاصةً لخلواتک حفلاتک، ثم ليکن آثرهم عندک أقولهم بمر الحق لک، وأقلهم مساعدةً فيما يکون منک مما کره الله لأوليائه، واقعاً ذلک من هواک حيث وقع. والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم علي ألا يطروک ولا يبجحوک بباطل لم تفعله، فإن کثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة. ولا يکونن المحسن والمسيء عندک بمنزلة سواء، فإن في ذلک تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، تدريباً لأهل الإساءة علي الإساءة، وألزم کلا منهم ما ألزم نفسه. واعلم أنه ليس شيء بأدعي إلي حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترک استکراهه إياهم علي ما ليس له قبلهم. فليکن منک في ذلک أمر يجتمع لک به حسن الظن برعيتک، فإن حسن الظن يقطع عنک نصباً طويلاً. وإن أحق من حسن ظنک به لمن حسن بلاؤک عنده، وإن أحق من ساء ظنک به لمن ساء بلاؤک عنده. ولا تنقض سنةً صالحةً عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثن سنةً تضر بشيء من ماضي تلک السنن، فيکون الأجر بمن سنها، والوزر عليک بما نقضت منها. وأکثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحکماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادک، وإقامة ما استقام به الناس قبلک. واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضه ا إلا ببعض، ولا غني ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، منها کتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلي من ذوي الحاجة والمسکنة، وکل قد سمي الله سهمه، ووضع علي حده وفريضتهً في کتابه أو سنة نبيه -صلي الله عليه وآله و سلم- عهداً منه عندنا محفوظاً. فالجنود، بإذن الله، حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويکون من وراء حاجتهم. ثم لا قوام لهذين الص نفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والکتاب، لما يحکمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها. ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويکفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلي من أهل الحاجة والمسکنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم. وفي الله لکل سعة، ولکل علي الوالي حق بقدر ما يصلحه. وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلک إلا بالإهتمام والإستعانة بالله، وتوطين نفسه علي لزوم الحق. والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل. فول من جنودک أنصحهم في نفسک لله ولرسوله ولإمامک، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً ممن يبطيء عن الغضب، ويستريح إلي العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو علي الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة، والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الکرم، وشعب من العرف. ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسک شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل، فإنه داعية لهم إلي بذل النصيحة لک، وحسن الظن بک. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتکالاً علي جسيمها، فإن لليسير من لطفک موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه. وليکن آثر رؤوس جندک عندک من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم يسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتي يکون همهم هماً واحداً في جهاد العدو، فإن عطفک عليهم يعطف قلوبهم عليک. وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية. وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم علي ولاة الأمور، وقلة استثقال دولهم، وترک استبطاء انقطاع مدتهم. فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلي ذووالبلاء منهم، فإن کثرة الذکر لحسن أفعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناکل، إن شاء الله. ثم اعرف لکل امريء منهم ما أبلي، ولا تضمن بلاء امريء إلي غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونک شرف امريء إلي أن تعظم من بلائه ما کان صغيراً، ولاضعة امريء إلي أن تستصغر من بلائه ماکان عظيماً. واردد إلي الله ورسوله ما يضلعک من الخطوب، ويشتبه عليک من الأمور، فقد قال الله سبحانه لقوم أحب إرشادهم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلي الله والرسول)، فالرد إلي الله: الأخذ بمحکم کتابه، والرد إلي الرسول: الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة. ثم اختر للحکم بين الناس أفضل رعيتک في نفسک، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحکه الخصوم، ولا يتمادي في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلي الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه علي طمع، ولا يکتفي بأدني فهم دون أقصاه، أوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم علي تکشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحکم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، أولئک قليل. ثم أکثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلي الناس، وأعطه من المنزلة لديک ما لا يطمع فيه غيره من خاصتک، ليأمن بذلک اغتيال الرجال له عندک. فانظر في ذلک نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد کان أسيراً في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوي، وتطلب به الدنيا. ثم انظر في أمور عمالک، فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباةً وأثرةً، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة. وتوخ منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أکرم أخلاقاً، وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً. ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلک قوة لهم علي استصلاح أنفسهم، وغني لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرک أو ثلموا أمانتک. ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدک في السر لأمورهم حدوة لهم علي استعمال الأمانة، والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلي خيانة اجتمعت بها عليه عندک أخبار عيونک، اکتفيت بذلک شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، و وسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس کلهم عيال علي الخراج وأهله. وليکن نظرک في عمارة الأرض أبلغ من نظرک في استجلاب الخراج، لأن ذلک لا يدرک إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلک العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً. فإن شکوا ثقلاً أو علةً، أو انقطاع شرب أو بالة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليک شيء خففت به المؤونة عنهم، ف إنه ذخر يعودون به عليک في عمارة بلادک، وتزيين ولايتک، مع استجلابک حسن ثنائهم، و تبجحک باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قوتهم، بما ذخرت عندهم من إجمامک لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلک عليهم و رفقک بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبةً أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتي خراب الأرض من إعواز أهلها، إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة علي الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر. ثم انظر في حال کتابک، فول علي أمورک خيرهم، واخصص رسائلک التي تدخل فيها مکائدک وأسرارک بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ممن لا تبطره الکرامة، فيجتريء بها عليک في خلاف لک بحضرة ملاء، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مکاتبات عمالک عليک، وإصدار جواباتها علي الصواب عنک، وفيما يأخذ لک ويعطي منک، ولا يضعف عقداً اعتقده لک، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليک، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يکون بقدر غيره أجهل. ثم لا يکن اختيارک إياهم علي فراستک واستنامتک وحسن الظن منک، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، ليس وراء ذلک من النصيحة والأمانة شيء، ولکن اختبرهم بماولوا للصالحين قبلک، فاعمد لأحسنهم کان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً، فإن ذلک دليل علي نصيحتک لله ولمن وليت أمره. واجعل لرأس کل أمر من أمورک رأساً منهم، لا يقهره کبيرها، ولا يتشتت عليه کثيرها، ومهما کان في کتابک من عيب فتغابيت عنه ألزمته. ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيراً: المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برک وبحرک، وسهلک وجبلک، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشي غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتک وفي حواشي بلادک. واعلم مع ذلک أن في کثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتکاراً للمنافع، وتحکماً في البياعات، وذلک باب مضرة للعامة، وعيب علي الولاة. فامنع من الإحتکار، فإن رسول الله صلي الله عليه وآله منع منه. وليکن البيع بيعاً سمحاً: بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حکرةً بعد نهيک إياه فنکل به، وعاقبه في غير إسراف. ثم الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم والمساکين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ لله ما استحفظک من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالک، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في کل بلد، فإن للأقصي منهم مثل الذي للأدني، وکل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنک عنهم بطر، فإنک لا تعذر بتضييع التافه لإحکامک الکثير المهم. فلا تشخص همک عنهم، ولا تصعر خدک لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليک منهم ممن تقتحمه العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئک ثقتک من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليک أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلي الله تعالي يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلي الإنصاف من غيرهم، وکل فأعذر إلي الله تعالي في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لاحيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلک علي الولاة ثقيل، والحق کله ثقيل، وقد يخففه الله علي أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم. واجعل لذوي الحاجات منک قسماً تفرغ لهم فيه شخصک، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه لله الذي خلقک، وتقعد عنهم جندک وأعوانک من أحراسک وشرطک، حتي يکلمک متکلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول في غير موطن: "لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع". ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والأنف، يبسط الله عليک بذلک أکناف رحمته، ويوجب لک ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار ! ثم أمور من أمورک لابد لک من مباشرتها: منها إجابة عمالک بما يعيا عنه کتابک، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليک مما تحرج به صدور أعوانک. وأمض لکل يوم عمله، فإن لکل يوم ما فيه، واجعل لنفسک فيما بينک وبين الله أفضل تلک المواقيت، وأجزل تلک الأقسام، وإن کانت کلها لله إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية. وليکن في خاصة ما تخلص لله به دينک: إقامة فرائضه التي هي له خاصةً، فأعط الله من بدنک في ليلک ونهارک، ووف ما تقربت به إلي الله من ذلک کاملاً غير مثلوم ولا منقوص، بالغاً من بدنک ما بلغ. وإذا قمت في صلاتک للناس، فلا تکونن منفراً ولا مضيعاً، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله -صلي الله عليه وآله وسلم- حين وجهني إلي اليمن کيف أصلي بهم؟ فقال: "صل بهم کصلاة أضعفهم، وکن بالمؤمنين رحيماً". وأما بعد، فلا تطولن احتجابک عن رعيتک، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الکبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل. وإنما الوالي بشر لا يعرف ما تواري عنه الناس به من الأمور، وليست علي الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الکذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسک بالبذل في الحق، ففيم احتجابک من واجب حق تعطيه، أو فعل کريم تسديه، أو مبتلي بالمنع، فما أسرع کف الناس عن مسألتک إذا أيسوا من بذلک! مع أن أکثر حاجات الناس إليک مما لا مؤونة فيه عليک، من شکاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة. ثم إن للوالي خاصةً وبطانةً، فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئک بقطع أسباب تلک الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتک وحامتک قطيعةً، ولا يطمعن منک في اعتقاد عقدة، تضر بمن يليها من الناس، في شرب أو عمل مشترک، يحملون مؤونته علي غيرهم، فيکون مهنأ ذلک لهم دونک، وعيبه عليک في الدنيا والآخرة. وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وکن في ذلک صابراً محتسباً، واقعاً ذلک من قرابتک خاصتک حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليک منه، فإن مغبة ذلک محمودة. وإن ظنت الرعية بک حيفاً، فأصحر لهم بعذرک، واعدل عنک ظنونهم بإصحارک، فإن في ذلک رياضةً منک لنفسک، ورفقاً برعيتک، و إعذاراً تبلغ فيه حاجتک من تقويمهم علي الحق. ولا تدفعن صلحاً دعاک إليه عدو ک لله فيه رضي، فإن في الصلح دعةً لجنودک، وراحةً من همومک، وأمناً لبلادک، ولکن الحذر کل الحذر من عدوک بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلک حسن الظن. وإن عقدت بينک وبين عدو لک عقدةً، أو ألبسته منک ذمةً، فحط عهدک بالوفاء، وارع ذمتک بالأمانة، واجعل نفسک جنةً دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً، مع تفريق أهوائهم، وتشتيت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلک المشرکون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتک، ولا تخيسن بعهدک، ولا تختلن عدوک، فإنه لا يجتريء علي الله إلا جاهل شقي. وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسکنون إلي منعته، يستفيضون إلي جواره، فلا إدغال، ولا مدالسة، ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن علي لحن القول بعد التأکيد والتوثقة، ولا يدعونک ضيق أمر لزمک فيه عهد الله، إلي طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرک علي ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بک من الله فيه طلبة، لاتستقيل فيها دنياک ولا آخرتک. إياک والدماء و سفکها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعي لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحري بزوال نعمة، وانقطاع مدة، من سفک الدماء بغير حقها. والله سبحانه مبتديء بالحکم بين العباد، فيما تسافکوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانک بسفک دم حرام، فإن ذلک مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لک عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطإ وأفرط عليک سوطک أو سيفک أو يدک بعقوبة، فإن في الوکزة فما فوقها مقتلةً، فلا تطمحن بک نخوة سلطانک عن أن تؤدي إلي أولياء المقتول حقهم. وإياک والإعجاب بنفسک، والثقة بما يعجبک منها، وحب الإطراء، فإن ذلک من أوثق فرص الشيطان في نفسه، ليمحق ما يکون من إحسان المحسنين. وإياک والمن علي رعيتک بإحسانک، أو التزيد فيما کان من فعلک، أو أن تعدهم فتتبع موعدک بخلفک، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عندالله والناس، قال الله سبحانه: (کبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) و إياک والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التساقط فيها عند إمکانها، أو اللجاجة فيها إذا تنکرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع کل أمر موضعه، وأوقع کل أمر موقعه. وإياک والإستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما تعني به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منک لغيرک، وعما قليل تنکشف عنک أغطية الأمور، وينتصف منک للمظلوم، املک حمية أنفک، وسورة حدک، وسطوة يدک، وغرب لسانک، واحترس من کل ذلک بکف البادرة، وتأخير السطوة، حتي يسکن غضبک فتملک الإختيار: ولن تحکم ذلک من نفسک حتي تکثر همومک بذکر المعاد إلي ربک. والواجب عليک أن تتذکر ما مضي لمن تقدمک من حکومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا-صلي الله عليه وآله وسلم- أوفريضة في کتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسک في اتباع ما عهدت إليک في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليک، لکيلا تکون لک علة عند تسرع نفسک إلي هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته علي إعطاء کل رغبة، أن يوفقني وإياک لما فيه رضاه من الإقامة علي العذر الواضح إليه وإلي خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة، وتضعيف الکرامة، وأن يختم لي ولک بالسعادة والشهادة، (إنا إليه راجعون)، والسلام علي رسول الله -صلي الله عليه وآله وسلم-الطيبين الطاهرين, وسلم تسليمًا کثيراً والسلام.
من کتاب له عليه السلام
کتبه للأشتر النخعي رحمه الله،
لما ولاه علي مصر وأعمالها حين اضطرب أمرمحمد بن أبي بکر رحمه الله، وهو أطول عهد کتبه وأجمعه للمحاسن
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أمر به عبد الله علي أميرالمؤمنين، مالک بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوي الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في کتابه: من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقي إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه، فإنه، جل اسمه، قد تکفل بنصر من نصره، وإعزاز من أعزه. وأمره أن يکسر نفسه من الشهوات، ويزعها عند الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم الله. ثم اعلم يا مالک، أني قد وجهتک إلي بلاد قد جرت عليها دول قبلک، من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورک في مثل ما کنت تنظر فيه من أم ور الولاة قبلک، ويقولون فيک ما کنت تقول فيهم، إنما يستدل علي الصالحين بما يجري الله لهم علي ألسن عباده. فليکن أحب الذخائر إليک ذخيرة العمل الصالح، فاملک هواک، وشح بنفسک عما لا يحل لک، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحببت وکرهت. وأشعر قلبک الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تکونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أکلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لک في الدين، وإما نظير لک في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل،يؤتي علي أيديهم في العمد والخطاء، فأعطهم من عفوک وصفحک مثل الذي تحب أن يعطيک الله من عفوه وصفحه، فإنک فوقهم، و والي الأمر عليک فوقک، والله فوق من ولاک! وقد استکفاک أمرهم، وابت لاک بهم. ولا تنصبن نفسک لحرب الله، فإنه لايد لک بنقمته، ولا غني بک عن عفوه ورحمته. ولا تندمن علي عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلي بادرة وجدت منها مندوحةً، ولا تقولن: إني مؤمر آمر فأطاع، فإن ذلک إدغال في القلب، ومنهکة للدين، وتقرب من الغير. وإذا أحدث لک ما أنت فيه من سلطانک أبهةً أو مخيلةً، فانظر إلي عظم ملک الله فوقک، وقدرته منک علي ما لا تقدر عليه من نفسک، فإن ذلک يطامن إليک من طماحک، ويکف عنک من غربک، يفيء إليک بما عزب عنک من عقلک! إياک ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل کل جبار، ويهين کل مختال. أنصف الله وأنصف الناس من نفسک، ومن خاصة أهلک، ومن لک فيه هوي من رعيتک، فإنک إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله کان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حج ته، وکان لله حرباً حتي ينزع ويتوب. وليس شيء أدعي إلي تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة علي ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد. وليکن أحب الأمور إليک أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضي الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضي الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضي العامة. وليس أحد من الرعية، أثقل علي الوالي مؤونةً في الرخاء، وأقل معونةً له في البلاء، وأکره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شکراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر من أهل الخاصة. وإنما عمود الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فليکن صغوک لهم، وميلک معهم. وليکن أبعد رعيتک منک، وأشنأهم عندک، أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوباً، الوالي أحق من سترها، فلا تکشفن عما غاب عنک منها، فإنما عليک تطهير ما ظهر لک، والله يحکم علي ما غاب عنک، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منک ما تحب ستره من رعيتک. أطلق عن الناس عقدة کل حقد، واقطع عنک سبب کل وتر، وتغاب عن کل ما لا يضح لک، ولا تعجلن إلي تصديق ساع، فإن الساعي غاش، وإن تشبه بالناصحين. ولا تدخلن في مشورتک بخيلاً يعدل بک عن الفضل، ويعدک الفقر، ولا جباناً يضعفک عن الأمور، ولا حريصاً يزين لک الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتي يجمعها سوء الظن بالله. شر وزرائک من کان للأشرار قبلک وزيراً، ومن شرکهم في الآثام، فلا يکونن لک بطانةً، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم و آثامهم، ممن لم يعاون ظالماً علي ظلمه، ولا آثماً علي إثمه: أولئک أخف عليک مؤونةً، وأحسن لک معونةً، وأحني عليک عطفاً، وأقل لغيرک إلفاً، فاتخذ أولئک خاصةً لخلواتک حفلاتک، ثم ليکن آثرهم عندک أقولهم بمر الحق لک، وأقلهم مساعدةً فيما يکون منک مما کره الله لأوليائه، واقعاً ذلک من هواک حيث وقع. والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم علي ألا يطروک ولا يبجحوک بباطل لم تفعله، فإن کثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة. ولا يکونن المحسن والمسيء عندک بمنزلة سواء، فإن في ذلک تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، تدريباً لأهل الإساءة علي الإساءة، وألزم کلا منهم ما ألزم نفسه. واعلم أنه ليس شيء بأدعي إلي حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم، وتخفيفه المؤونات عليهم، وترک استکراهه إياهم علي ما ليس له قبلهم. فليکن منک في ذلک أمر يجتمع لک به حسن الظن برعيتک، فإن حسن الظن يقطع عنک نصباً طويلاً. وإن أحق من حسن ظنک به لمن حسن بلاؤک عنده، وإن أحق من ساء ظنک به لمن ساء بلاؤک عنده. ولا تنقض سنةً صالحةً عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية. ولا تحدثن سنةً تضر بشيء من ماضي تلک السنن، فيکون الأجر بمن سنها، والوزر عليک بما نقضت منها. وأکثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحکماء، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادک، وإقامة ما استقام به الناس قبلک. واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضه ا إلا ببعض، ولا غني ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، منها کتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلي من ذوي الحاجة والمسکنة، وکل قد سمي الله سهمه، ووضع علي حده وفريضتهً في کتابه أو سنة نبيه -صلي الله عليه وآله و سلم- عهداً منه عندنا محفوظاً. فالجنود، بإذن الله، حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويکون من وراء حاجتهم. ثم لا قوام لهذين الص نفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والکتاب، لما يحکمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها. ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويکفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم. ثم الطبقة السفلي من أهل الحاجة والمسکنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم. وفي الله لکل سعة، ولکل علي الوالي حق بقدر ما يصلحه. وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلک إلا بالإهتمام والإستعانة بالله، وتوطين نفسه علي لزوم الحق. والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل. فول من جنودک أنصحهم في نفسک لله ولرسوله ولإمامک، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً ممن يبطيء عن الغضب، ويستريح إلي العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو علي الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة، والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة، والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الکرم، وشعب من العرف. ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسک شيء قويتهم به، ولا تحقرن لطفاً تعاهدتهم به وإن قل، فإنه داعية لهم إلي بذل النصيحة لک، وحسن الظن بک. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتکالاً علي جسيمها، فإن لليسير من لطفک موضعاً ينتفعون به، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه. وليکن آثر رؤوس جندک عندک من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم يسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتي يکون همهم هماً واحداً في جهاد العدو، فإن عطفک عليهم يعطف قلوبهم عليک. وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية. وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم علي ولاة الأمور، وقلة استثقال دولهم، وترک استبطاء انقطاع مدتهم. فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلي ذووالبلاء منهم، فإن کثرة الذکر لحسن أفعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناکل، إن شاء الله. ثم اعرف لکل امريء منهم ما أبلي، ولا تضمن بلاء امريء إلي غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونک شرف امريء إلي أن تعظم من بلائه ما کان صغيراً، ولاضعة امريء إلي أن تستصغر من بلائه ماکان عظيماً. واردد إلي الله ورسوله ما يضلعک من الخطوب، ويشتبه عليک من الأمور، فقد قال الله سبحانه لقوم أحب إرشادهم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منکم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلي الله والرسول)، فالرد إلي الله: الأخذ بمحکم کتابه، والرد إلي الرسول: الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة. ثم اختر للحکم بين الناس أفضل رعيتک في نفسک، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحکه الخصوم، ولا يتمادي في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلي الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه علي طمع، ولا يکتفي بأدني فهم دون أقصاه، أوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم علي تکشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحکم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، أولئک قليل. ثم أکثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلي الناس، وأعطه من المنزلة لديک ما لا يطمع فيه غيره من خاصتک، ليأمن بذلک اغتيال الرجال له عندک. فانظر في ذلک نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد کان أسيراً في أيدي الأشرار، يعمل فيه بالهوي، وتطلب به الدنيا. ثم انظر في أمور عمالک، فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباةً وأثرةً، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة. وتوخ منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أکرم أخلاقاً، وأصح أعراضاً، وأقل في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً. ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلک قوة لهم علي استصلاح أنفسهم، وغني لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرک أو ثلموا أمانتک. ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدک في السر لأمورهم حدوة لهم علي استعمال الأمانة، والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلي خيانة اجتمعت بها عليه عندک أخبار عيونک، اکتفيت بذلک شاهداً، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، و وسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأن الناس کلهم عيال علي الخراج وأهله. وليکن نظرک في عمارة الأرض أبلغ من نظرک في استجلاب الخراج، لأن ذلک لا يدرک إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلک العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً. فإن شکوا ثقلاً أو علةً، أو انقطاع شرب أو بالة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليک شيء خففت به المؤونة عنهم، ف إنه ذخر يعودون به عليک في عمارة بلادک، وتزيين ولايتک، مع استجلابک حسن ثنائهم، و تبجحک باستفاضة العدل فيهم، معتمداً فضل قوتهم، بما ذخرت عندهم من إجمامک لهم، والثقة منهم بما عودتهم من عدلک عليهم و رفقک بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبةً أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتي خراب الأرض من إعواز أهلها، إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة علي الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر. ثم انظر في حال کتابک، فول علي أمورک خيرهم، واخصص رسائلک التي تدخل فيها مکائدک وأسرارک بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ممن لا تبطره الکرامة، فيجتريء بها عليک في خلاف لک بحضرة ملاء، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مکاتبات عمالک عليک، وإصدار جواباتها علي الصواب عنک، وفيما يأخذ لک ويعطي منک، ولا يضعف عقداً اعتقده لک، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليک، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإن الجاهل بقدر نفسه يکون بقدر غيره أجهل. ثم لا يکن اختيارک إياهم علي فراستک واستنامتک وحسن الظن منک، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم، ليس وراء ذلک من النصيحة والأمانة شيء، ولکن اختبرهم بماولوا للصالحين قبلک، فاعمد لأحسنهم کان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانة وجهاً، فإن ذلک دليل علي نصيحتک لله ولمن وليت أمره. واجعل لرأس کل أمر من أمورک رأساً منهم، لا يقهره کبيرها، ولا يتشتت عليه کثيرها، ومهما کان في کتابک من عيب فتغابيت عنه ألزمته. ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيراً: المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برک وبحرک، وسهلک وجبلک، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشي غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتک وفي حواشي بلادک. واعلم مع ذلک أن في کثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتکاراً للمنافع، وتحکماً في البياعات، وذلک باب مضرة للعامة، وعيب علي الولاة. فامنع من الإحتکار، فإن رسول الله صلي الله عليه وآله منع منه. وليکن البيع بيعاً سمحاً: بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حکرةً بعد نهيک إياه فنکل به، وعاقبه في غير إسراف. ثم الله الله في الطبقة السفلي من الذين لا حيلة لهم والمساکين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ لله ما استحفظک من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالک، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في کل بلد، فإن للأقصي منهم مثل الذي للأدني، وکل قد استرعيت حقه، فلا يشغلنک عنهم بطر، فإنک لا تعذر بتضييع التافه لإحکامک الکثير المهم. فلا تشخص همک عنهم، ولا تصعر خدک لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليک منهم ممن تقتحمه العيون، وتحقره الرجال، ففرغ لأولئک ثقتک من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليک أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلي الله تعالي يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلي الإنصاف من غيرهم، وکل فأعذر إلي الله تعالي في تأدية حقه إليه. وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لاحيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلک علي الولاة ثقيل، والحق کله ثقيل، وقد يخففه الله علي أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم، ووثقوا بصدق موعود الله لهم. واجعل لذوي الحاجات منک قسماً تفرغ لهم فيه شخصک، وتجلس لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه لله الذي خلقک، وتقعد عنهم جندک وأعوانک من أحراسک وشرطک، حتي يکلمک متکلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول في غير موطن: "لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع". ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والأنف، يبسط الله عليک بذلک أکناف رحمته، ويوجب لک ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئاً، وامنع في إجمال وإعذار ! ثم أمور من أمورک لابد لک من مباشرتها: منها إجابة عمالک بما يعيا عنه کتابک، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليک مما تحرج به صدور أعوانک. وأمض لکل يوم عمله، فإن لکل يوم ما فيه، واجعل لنفسک فيما بينک وبين الله أفضل تلک المواقيت، وأجزل تلک الأقسام، وإن کانت کلها لله إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية. وليکن في خاصة ما تخلص لله به دينک: إقامة فرائضه التي هي له خاصةً، فأعط الله من بدنک في ليلک ونهارک، ووف ما تقربت به إلي الله من ذلک کاملاً غير مثلوم ولا منقوص، بالغاً من بدنک ما بلغ. وإذا قمت في صلاتک للناس، فلا تکونن منفراً ولا مضيعاً، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله -صلي الله عليه وآله وسلم- حين وجهني إلي اليمن کيف أصلي بهم؟ فقال: "صل بهم کصلاة أضعفهم، وکن بالمؤمنين رحيماً". وأما بعد، فلا تطولن احتجابک عن رعيتک، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الکبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل. وإنما الوالي بشر لا يعرف ما تواري عنه الناس به من الأمور، وليست علي الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الکذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسک بالبذل في الحق، ففيم احتجابک من واجب حق تعطيه، أو فعل کريم تسديه، أو مبتلي بالمنع، فما أسرع کف الناس عن مسألتک إذا أيسوا من بذلک! مع أن أکثر حاجات الناس إليک مما لا مؤونة فيه عليک، من شکاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة. ثم إن للوالي خاصةً وبطانةً، فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئک بقطع أسباب تلک الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتک وحامتک قطيعةً، ولا يطمعن منک في اعتقاد عقدة، تضر بمن يليها من الناس، في شرب أو عمل مشترک، يحملون مؤونته علي غيرهم، فيکون مهنأ ذلک لهم دونک، وعيبه عليک في الدنيا والآخرة. وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وکن في ذلک صابراً محتسباً، واقعاً ذلک من قرابتک خاصتک حيث وقع، وابتغ عاقبته بما يثقل عليک منه، فإن مغبة ذلک محمودة. وإن ظنت الرعية بک حيفاً، فأصحر لهم بعذرک، واعدل عنک ظنونهم بإصحارک، فإن في ذلک رياضةً منک لنفسک، ورفقاً برعيتک، و إعذاراً تبلغ فيه حاجتک من تقويمهم علي الحق. ولا تدفعن صلحاً دعاک إليه عدو ک لله فيه رضي، فإن في الصلح دعةً لجنودک، وراحةً من همومک، وأمناً لبلادک، ولکن الحذر کل الحذر من عدوک بعد صلحه، فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلک حسن الظن. وإن عقدت بينک وبين عدو لک عقدةً، أو ألبسته منک ذمةً، فحط عهدک بالوفاء، وارع ذمتک بالأمانة، واجعل نفسک جنةً دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً، مع تفريق أهوائهم، وتشتيت آرائهم، من تعظيم الوفاء بالعهود. وقد لزم ذلک المشرکون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرن بذمتک، ولا تخيسن بعهدک، ولا تختلن عدوک، فإنه لا يجتريء علي الله إلا جاهل شقي. وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً يسکنون إلي منعته، يستفيضون إلي جواره، فلا إدغال، ولا مدالسة، ولا خداع فيه، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل، ولا تعولن علي لحن القول بعد التأکيد والتوثقة، ولا يدعونک ضيق أمر لزمک فيه عهد الله، إلي طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرک علي ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته، خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بک من الله فيه طلبة، لاتستقيل فيها دنياک ولا آخرتک. إياک والدماء و سفکها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعي لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحري بزوال نعمة، وانقطاع مدة، من سفک الدماء بغير حقها. والله سبحانه مبتديء بالحکم بين العباد، فيما تسافکوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانک بسفک دم حرام، فإن ذلک مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لک عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطإ وأفرط عليک سوطک أو سيفک أو يدک بعقوبة، فإن في الوکزة فما فوقها مقتلةً، فلا تطمحن بک نخوة سلطانک عن أن تؤدي إلي أولياء المقتول حقهم. وإياک والإعجاب بنفسک، والثقة بما يعجبک منها، وحب الإطراء، فإن ذلک من أوثق فرص الشيطان في نفسه، ليمحق ما يکون من إحسان المحسنين. وإياک والمن علي رعيتک بإحسانک، أو التزيد فيما کان من فعلک، أو أن تعدهم فتتبع موعدک بخلفک، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عندالله والناس، قال الله سبحانه: (کبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) و إياک والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التساقط فيها عند إمکانها، أو اللجاجة فيها إذا تنکرت، أو الوهن عنها إذا استوضحت، فضع کل أمر موضعه، وأوقع کل أمر موقعه. وإياک والإستئثار بما الناس فيه أسوة، والتغابي عما تعني به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منک لغيرک، وعما قليل تنکشف عنک أغطية الأمور، وينتصف منک للمظلوم، املک حمية أنفک، وسورة حدک، وسطوة يدک، وغرب لسانک، واحترس من کل ذلک بکف البادرة، وتأخير السطوة، حتي يسکن غضبک فتملک الإختيار: ولن تحکم ذلک من نفسک حتي تکثر همومک بذکر المعاد إلي ربک. والواجب عليک أن تتذکر ما مضي لمن تقدمک من حکومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا-صلي الله عليه وآله وسلم- أوفريضة في کتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسک في اتباع ما عهدت إليک في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليک، لکيلا تکون لک علة عند تسرع نفسک إلي هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته علي إعطاء کل رغبة، أن يوفقني وإياک لما فيه رضاه من الإقامة علي العذر الواضح إليه وإلي خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة، وتضعيف الکرامة، وأن يختم لي ولک بالسعادة والشهادة، (إنا إليه راجعون)، والسلام علي رسول الله -صلي الله عليه وآله وسلم-الطيبين الطاهرين, وسلم تسليمًا کثيراً والسلام.